أسرار أصحاب الثراء الفاحش في المغرب… كيف كانوا وكيف أصبحوا

 

 

.

أسرار أصحاب الثراء الفاحش في المغرب… كيف كانوا وكيف أصبحوا

<p>ما زالت العائلات الكبرى التي تعود أصولها أحيانا إلى قرون خلت حاضرة اليوم في المناصب الإدارية السامية وعالم المال والأعمال.<br />هناك نخبة فاحشة الثراء في المغرب يقتسم ممثلوها المناصب السامية في الإدارات ويديرون دفة المقاولات العمومية أو الخاصة. وتنتمي غالبية أهل الحظوة هؤلاء إلى “العائلات الكبرى” المنتشرة عبر تراب المملكة، وهي برجوازية مترفة تعود جذورها إلى الفتوحات العربية الأولى وإلى إنشاء مدينة فاس. وترتبط أسطورة عائلات الطبقة المخملية هذه ارتباطا وثيقا بتاريخ المغرب وما يزال أحفاد الأوائل إلى الآن يسيطرون بشكل واسع على عالم المقاولات والهياكل المؤسساتية التقنية للدولة. تتبع جامعي مغربي اسمه علي بنحدو تاريخ هؤلاء الأحفاد في كتابين استلهمنا منهما الكثير في إعداد هذا الموضوع.<br />كل شيء بدأ في فاس، حيث تحولت المدينة التي أسسها السلطان إدريس الأول سنة 789 بعد مرور عشرين سنة إلى مقر السلطة الجديد في عهد إدريس الثاني. في تلك الفترة كان المجتمع المغربي قرويا وشبه إقطاعي. ومنذ سنة 825 ميلادي، استقطب سلطان فاس الجديد حوالي ألفي أسرة عربية تنحدر من القيروان (تونس)، تلتها أمواج ضمت أعداد كبيرة من الأندلسيين ممن ورثوا حضارة إسبانية موريسكية غنية قدموا من مدن قرطبة وإشبيلية وطليطلة الإسبانية. وتشكلت أمواج القادمين الأوائل ممن طردهم الأمويون منذ بداية القرن الرابع، بينما الأواخر عبروا البحر الأبيض المتوسط في القرن الخامس عشر بعد الاستيلاء على مدينة غرناطة على يد الملكين الكاثوليكيين. في البداية توزعت تلك العائلات الكبيرة على ثلاث مجموعات مختلفة.</p>
<p><strong>الشرفاء والعلماء وأسر التجار</strong></p>
<p>الشرفاء هم النبلاء المنتمون إما إلى سلالة الأدارسة أو العلويين الحاكمة في الوقت الحالي، أو من ينتمون إلى المجموعات الأرستقراطية الأجنبية كعائلة الصقلي القادمة من صقلية أو العراقي المنحدرة من بلاد الرافدين. وكان على جميع هؤلاء عدم الخوض في التجارة والأعمال، وهم وحدهم من يمكن المناداة عليه بـ “سيدي” و”المعلّم” أو حتى “مولاي”.<br />يأتي بعدهم العلماء ممن ظهروا خصوصا في بداية القرن السابع عشر وهم المثقفون. وكان بعضهم يدرسون في الجامعة الإسلامية في فاس حيث ظهروا وكأنهم الضامنين لاستمرار التقاليد. ومن بين عائلات العلماء القديمة والمعروفة نجد الفاسي. أما الأسماء الأخرى المعروفة أيضا والمنضوية ضمن نفس المجموعة فهناك بنسودة وكنون والقادري وبالخياط والمرنيسي.<br />في الأخير تأتي المجموعة الثالثة وهي عائلات التجار وهي من أكثرها عددا، فقد استفادوا كثيرا منذ بداية القرن السادس عشر من تطور التجارة العالمية المفروضة آنذاك. وكان تجار فاس يصدرون الجلود والسجاد إلى أوربا ويستوردون الأنسجة والمنتوجات الصناعية الإنجليزية. وذهب بعضهم إلى الصين والهند وبلاد فارس، فيما تخصص آخرون في التجارة مع إفريقيا.</p>
<p><strong>تداخل المجموعات الثلاثة</strong></p>
<p>شيئا فشيئا بدأت الاختلافات بين المجموعات الثلاثة تزول خصوصا بسبب الزيجات التي مكنت من تقريب العائلات بعضها من بعض. وعلى غرار ما حصل في أوربا، كان الأرستوقراطيون يزوجون بناتهم لتجار أغنياء يعوزهم الاعتبار والشرف. وهنا دخل المثقفون باب التجارة والأعمال، في حين أصبح التجار موظفين لدى الدولة. وظهرت في تلك الأثناء أرستقراطية برجوازية بدأ القصر يعتمد عليها شيئا فشيئا. وبمرور السنوات، أصبح بعض النبلاء يجمّعون أغلب ثرواتهم بفضل قربهم من الدولة –الجامعي والمقري أو بنسليمان على سبلي المثال–، بينما فضل آخرون التجارة والأعمال –بنجلون والتازي والصقلي والفيلالي والكتاني وبنيس وبرادة.<br />العلويون.. الأسرة الحاكمة<br />يعود نسب العلويين المباشر إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبالضبط إلى خليفة الإسلام الرابع، علي رضي الله عنه صهر النبي وابن عمه. واعتلى العلويون السلطة في المغرب في بداية القرن السابع عشر بعدما جرت مبايعة مولاي علي الشريف زعيما سياسيا لتافيلالت سنة 1631. واستطاع الشرفاء العلويون بفضل الهيبة الدينية التي أحاطت بهم من إزاحة السعديين عن الحكم. وعلى الرغم من الصراع على الحكم الذي كان يشتعل أحيان فقد نجحوا في الحفاظ على السلطة إلى يومنا هذا. أما اليوم فتلعب الأسرة الحاكمة دورا يبقى متواريا إلا أنه محوري ولا يمكن تجاهله، فأخ الملك وأخواته هم سفراء للنوايا الحسنة. وغالبا ما يتم اقتراح الأول لحضور مراسيم تشييع جنازة كبار شخصيات العالم (التي لا يحضرها الملك لدواعي لها علاقة بالبروتوكول المتبع)، بينما تكلف الأخريات بإظهار السياسة الاجتماعية للمؤسسة الملكية، من خلال تمويل عدد كبير من المؤسسات وإدارتها. أما أبناء عمومة الملك القريبين منه فلهم دور أيضا.</p>
<p>في القرن التاسع عشر، غادر عدد كبير من هذه الأسر فاس واستقروا بالدار البيضاء التي أصبحت العاصمة الاقتصادية للمملكة، حيث كانت أروبا اذاك في أوج ثورتها الصناعية. وقد جلبت الدار البيضاء التجار الأوربيين وطوّرت من أنشطتها المينائية. من جانب آخر، أدى احتلال الفرنسيين للجزائر سنة 1830 إلى قطع فاس عن أسواقها الشرقية. وفي تلك الفترة بالذات ظهرت قوة ما يطلق عليه الآن “فاسيو الدار البيضاء”. ويعتبر حسن بنجلون أحد أكبر المستفيدين من تعمير مدينة الدار البيضاء، حيث حل بائع الحبوب ووكيل شركة الملاحة “باكي” بالدار البيضاء سنة 1880. وشرع في الاستثمار في العقار والأثاث بعدما استشعر التطور المستقبلي للمدينة. وما زال ورثته –عددهم حوال 150– يحصلون إلى اليوم على مداخيل مهمة من استثماراته. ومن أشهرهم دون منازع هو عثمان بنجلون. بعمره الذي يجاوز الثمانين، يقف على رأس أكبر المجموعات الاقتصادية في البلد متمثلة خصوصا في القطاع البنكي من خلال البنك المغربي للتجارة الخارجية (BMCE) وكان يمتلك إلى نهاية التسعينيات أحد أكبر الثروات في المغرب، إلا أن علاقاته المتقلبة مع المخزن الاقتصادي (النخب المقربة من الملك) جعلت طموحاته تخبو بعض الشيء في السنوات الأخيرة. هذا الميلياردير صاحب الشكل الإنجليزي –يطلق عليه سير عوثي– متزوج من ابنة الماريشال أمزيان المنحدر هو من أسرة ريفية عريقة.</p>
<p><strong>الفاسيون يستثمرون في الهياكل التقنية للدولة</strong></p>
<p>أصبحت بعض العائلات عناصر مهمة في سياسة التحديث الاقتصادي التي ارتآها السلطان مولاي الحسن الأول. وعين بعد اعتلائه العرش سنة 1873ن على رأس وزارة المالية أحد المنتمين إلى عائلة بنيس يطلق عليه المدني. إلا أن هذا الأخير كسب عداوة الدباغين بعد أن فرض عليهم ضريبة عن تجارة الجلود ثم على شريحة من البورجوازية التي ثارت ضد تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، فاستجاب السلطان لمطالبهم وأنصفهم. ولمصالحتهم قام بتعيين محمد التازي وزيرا للمالية. من جهة أخرى، بدأ تأثير عائلات بنونة وبنشقرون –يهود اعتنقوا الإسلام– والبناني والشرايبي وغسوس وبنسليمان يكبر ويتنامى.<br />شرعت كبريات العائلات الفاسية في الاستثمار في الدولة، والسبب في ذلك بسيط، لأن هذه الأخيرة في حاجة إلى تكنوقراط مؤهلين وهؤلاء هم أبناء تلك العائلات ممن درسوا في أفضل المدارس… وسرعان ما استوعبت العائلات مقدار الفائدة التي بإمكانها الحصول عليها فاكتسبت عادة ما زالت شائعة إلى اليوم تتمثل في وضع أحد المنتمين إليها في أعلى دوائر القرار في الإدارة العمومية. وإلى غاية سنة 1930، لم يكن هناك إلا إعداديتين إسلاميتين اثنتين هما إعدادية مولاي إدريس بفاس ومولاي يوسف بالدار البيضاء. وكانت، كما قرر ذلك المارشال ليوطي، تستقبل تلاميذ يتم اختيار من حصلوا منهم على شهادة الدراسات الإسلامية، وهو عبارة عن دبلوم تسلمه مدار الأعيان. هذا الأمر جعل هيمنة النبلاء، أي العائلات الفاسية، على الهياكل التقنية للإدارة أمرا مؤكدا.<br />وعلى نفس المنوال وبشكل طبيعي سيحمل هؤلاء الشبان البرجوازيون المتنورون شعلة الحركة الوطنية. في فاس كانت هناك عائلات الفاسي والديوري والمرنيسي وبنشقرون؛ وفي الرباط بلافريج والسلاوي واغديرة والجعيدي؛ وفي الدار البيضاء بنجلون والسبتي بوطالب واليعقوبي، كلهم من أصول فاسية وكلهم ساندوا حركة وطنية تتأسس على الإسلام وعلى اللغة العربية اللذين رأوا فيهما رمزا لاستعادة هويتهم. وتولد عن هذه الحركة “حزب الاستقلال” الذي اختار الدفاع عن الملكية في شخص السلطان محمد الخامس. هذا الحزب لعب دورا تاريخيا في توطيد مكانة كبريات العائلات البورجوازية. وكان ورثتهم يلجون أفضل الثانويات وأتم أغلبهم دراسته في المدارس الفرنسية العليا. وبعد حصولهم على شواهد في المناجم والقناطر والطرق أو في التخصصات المتعددة التقنيات، جرى تعيين بعضهم على رأس الإدارات الكبرى والشركات الصناعية أو التجارية وتوزعوا على كل القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية. وكان من أكبر المستفيدين بُعيد الاستقلال عائلات الفيلالي والعمراني والكتاني والعلمي وغيرهم، وتقوى اندماجهم داخل السلطات الاقتصادية والسياسية للدولة. واستطاع التكنوقراط التقدم على السياسيين الذي همشتهم الدولة، كما اعتمد أحمد اغديرة، المستشار الرئيس للحسن الثاني كثير على هؤلاء النبلاء أصحاب الشواهد العالية وغير المتحزبين. وأصبح أحمد العلوي وإدريس السلاوي والإخوة بنهيمة والفاسي والتازي وبناني وبنسودة وزراء قارين أسس بعضهم لسلالات سياسية حقيقية.</p>
<p><strong>الحسن الثاني وتشجيع التنوع</strong></p>
<p>كان لا بد من انتظار مرور عشر سنوات على تحقيق الاستقلال قبل معاينة ظهور بعض الشخصيات في عالم الاقتصاد لا تنتمي إلى المجموعة المهيمنة. وفي سنة 1966، ساهمت مراقبة الاتحادات الجهوية لغرف التجارة والصناعة في إذكاء نار الثورة على يد بعض تجار الجملة من منطقة سوس (أمازيغ السهل) ممن رغبوا في إنهاء هيمة أسرة الفاسي. وفي هذه الفترة بالذات ظهرت طبقة من التجار السوسيين مع رجال أعمال على شاكلة ميلود الشعبي وعزيز أخنوش. لكن هيمنة آل الفاسي على قطاع المال والأعمال لم تتقلص. وفي سنة 1980، وبعد صدور تقرير للبنك الدولي تحدث عن شيخوخة المملكة، عمل الملك الحسن الثاني جاهدا على تشجيع تنويع النخب، جغرافيا على الأقل. عندها تم تعيين أطر غير فاسية. وكانت هناك عملية تطوير سهر عليها وزير الداخلية آنذاك، إدريس البصري، هو الآخر ابن شخص عمل كشاوش وانحدر من مدينة سطات.<br />ومنذ اعتلائه العرش أحاط محمد السادس به ببعض زملائه السابقين في الكوليج الملكي، ما يعني توظيفا متنوعا لهذه الحاشية المقربة. في المقابل من ذلك، ما تزال نفس العائلات الكبرى هي الممسكة باقتصاد المملكة وهياكلها التقنية، وتحافظ على ميزة إرسال أبنائها للدراسة في أفضل المدارس الأوربية والأمريكية. كما حرص الملك ومنذ اعتلائه العرش في مسيرة تحديث المملكة على الاعتماد على التكنوقراط أكثر من اعتماده على الطبقة السياسية. وينتمي رجال الأعمال الأكثر ثراء وتأثيرا في مغرب اليوم في أغلبهم إلى كبريات العائلات الفاسية. وهي حالة أنس الصفريوي وعثمان بنجلون والراحل إبراهيم زنير ومولاي حفيظ العلمي ومحمد كريم العمراني –وزير أول ثلاث مرات في عهد الحسن الثاني ومدير سابق للمكتب الشريف للفوسفاط، وتنازل عن مجموعة لصالح ابنته سعيدة–، وعائلة الكتاني (وافا بنك وفروعها، من بين أخرى) أو حتى نور الدين عيوش رجل الإشهار المعروف. وينحدر أنس الصفريوي من عائلة تعتبر من أقدم سكان فاس ويقف اليوم على رأس عملاق العقار الضحى الرائد في السكن الاجتماعي في المغرب بعدما كانت بداياته في مجال الأعمال في بيع “الغاسول”، هذا الطين المستعمل عند الاستحمام في الحمامات التقليدية. أما إبراهيم زنيبر الذي تعود أصوله إلى عائلة أندلسية عريقة استقر أغلب أعضائها في مدينة سلا بعد سقوط غرناطة، فقد كان يعتبر قبل وفاته سنة 2016 من أهم الفاعلين في قطاع الصناعات الغذائية في المغرب من خلال مجموعة ديانا المالكة لـ “Celliers de Meknès” التي تعتبر أول منتج للخمور في المغرب. بدوره مولاي حفيظ العلمي الذي يزعم أن أصوله شريفه –وهو السبب في لقب مولاي–، يعتبر من أكثر رجال الأعمال شهرة في المملكة. فبعد فترة قصيرة قضاها بمجموعة “أومنيوم شمال إفريقيا” (أونا) تحول إلى مجال التأمينات حيث خلق ثروته فيها. ومنذ فترة ولج مجال الإعلام بإرادة واضحة لإنشاء مجموعة صحفية.<br />وهناك أيضا رجلين من منطقة سوس يلعبان في نفس المربع من دون أي صعوبات وهما: عزيز أخنوش، رئيس “مجموعة أكوا” (التي تضم حوالي خمسين شركة)، ووزير ورئيس سابق لمنطقة سوس ماسة درعة؛ والراحل ميلود الشعبي رجل الأعمال صاحب التصريحات القوية أبدى اهتمامات تفرقت بين العقار والصناعات الغذائية مرورا بالفنادق والنسيج وقروض الاستهلاك. أما الأول فقد ورث عن أبيه (الذي بدأ من الصفر) مجموعة تعتبر اليوم واحدة من أهم أقطاب الاقتصاد المغرب، وهو يجسد في نظر الكثيرين انتقام الرأسمالية السوسية من النزعة التجارية الفاسية. ومنذ أن دخل الحكومة سنة 2007 مازج بين السياسية والأعمال. ويدير حاليا حزب التجمع الوطين للأحرار. من جهتها، تدير زوجته، سلوى أخنوش، مجموعة “أكسال” الناشطة في مجالات شراء حقوق تسويق العلامات التجارية ومجالات العقار و”المولات” أي المراكز التجارية على الطريقة الأمريكية التي بدأت في الازدهار في المدن المغربية.</p>

مواقع

ما زالت العائلات الكبرى التي تعود أصولها أحيانا إلى قرون خلت حاضرة اليوم في المناصب الإدارية السامية وعالم المال والأعمال.
هناك نخبة فاحشة الثراء في المغرب يقتسم ممثلوها المناصب السامية في الإدارات ويديرون دفة المقاولات العمومية أو الخاصة. وتنتمي غالبية أهل الحظوة هؤلاء إلى “العائلات الكبرى” المنتشرة عبر تراب المملكة، وهي برجوازية مترفة تعود جذورها إلى الفتوحات العربية الأولى وإلى إنشاء مدينة فاس. وترتبط أسطورة عائلات الطبقة المخملية هذه ارتباطا وثيقا بتاريخ المغرب وما يزال أحفاد الأوائل إلى الآن يسيطرون بشكل واسع على عالم المقاولات والهياكل المؤسساتية التقنية للدولة. تتبع جامعي مغربي اسمه علي بنحدو تاريخ هؤلاء الأحفاد في كتابين استلهمنا منهما الكثير في إعداد هذا الموضوع.
كل شيء بدأ في فاس، حيث تحولت المدينة التي أسسها السلطان إدريس الأول سنة 789 بعد مرور عشرين سنة إلى مقر السلطة الجديد في عهد إدريس الثاني. في تلك الفترة كان المجتمع المغربي قرويا وشبه إقطاعي. ومنذ سنة 825 ميلادي، استقطب سلطان فاس الجديد حوالي ألفي أسرة عربية تنحدر من القيروان (تونس)، تلتها أمواج ضمت أعداد كبيرة من الأندلسيين ممن ورثوا حضارة إسبانية موريسكية غنية قدموا من مدن قرطبة وإشبيلية وطليطلة الإسبانية. وتشكلت أمواج القادمين الأوائل ممن طردهم الأمويون منذ بداية القرن الرابع، بينما الأواخر عبروا البحر الأبيض المتوسط في القرن الخامس عشر بعد الاستيلاء على مدينة غرناطة على يد الملكين الكاثوليكيين. في البداية توزعت تلك العائلات الكبيرة على ثلاث مجموعات مختلفة.

الشرفاء والعلماء وأسر التجار

الشرفاء هم النبلاء المنتمون إما إلى سلالة الأدارسة أو العلويين الحاكمة في الوقت الحالي، أو من ينتمون إلى المجموعات الأرستقراطية الأجنبية كعائلة الصقلي القادمة من صقلية أو العراقي المنحدرة من بلاد الرافدين. وكان على جميع هؤلاء عدم الخوض في التجارة والأعمال، وهم وحدهم من يمكن المناداة عليه بـ “سيدي” و”المعلّم” أو حتى “مولاي”.
يأتي بعدهم العلماء ممن ظهروا خصوصا في بداية القرن السابع عشر وهم المثقفون. وكان بعضهم يدرسون في الجامعة الإسلامية في فاس حيث ظهروا وكأنهم الضامنين لاستمرار التقاليد. ومن بين عائلات العلماء القديمة والمعروفة نجد الفاسي. أما الأسماء الأخرى المعروفة أيضا والمنضوية ضمن نفس المجموعة فهناك بنسودة وكنون والقادري وبالخياط والمرنيسي.
في الأخير تأتي المجموعة الثالثة وهي عائلات التجار وهي من أكثرها عددا، فقد استفادوا كثيرا منذ بداية القرن السادس عشر من تطور التجارة العالمية المفروضة آنذاك. وكان تجار فاس يصدرون الجلود والسجاد إلى أوربا ويستوردون الأنسجة والمنتوجات الصناعية الإنجليزية. وذهب بعضهم إلى الصين والهند وبلاد فارس، فيما تخصص آخرون في التجارة مع إفريقيا.

تداخل المجموعات الثلاثة

شيئا فشيئا بدأت الاختلافات بين المجموعات الثلاثة تزول خصوصا بسبب الزيجات التي مكنت من تقريب العائلات بعضها من بعض. وعلى غرار ما حصل في أوربا، كان الأرستوقراطيون يزوجون بناتهم لتجار أغنياء يعوزهم الاعتبار والشرف. وهنا دخل المثقفون باب التجارة والأعمال، في حين أصبح التجار موظفين لدى الدولة. وظهرت في تلك الأثناء أرستقراطية برجوازية بدأ القصر يعتمد عليها شيئا فشيئا. وبمرور السنوات، أصبح بعض النبلاء يجمّعون أغلب ثرواتهم بفضل قربهم من الدولة –الجامعي والمقري أو بنسليمان على سبلي المثال–، بينما فضل آخرون التجارة والأعمال –بنجلون والتازي والصقلي والفيلالي والكتاني وبنيس وبرادة.
العلويون.. الأسرة الحاكمة
يعود نسب العلويين المباشر إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبالضبط إلى خليفة الإسلام الرابع، علي رضي الله عنه صهر النبي وابن عمه. واعتلى العلويون السلطة في المغرب في بداية القرن السابع عشر بعدما جرت مبايعة مولاي علي الشريف زعيما سياسيا لتافيلالت سنة 1631. واستطاع الشرفاء العلويون بفضل الهيبة الدينية التي أحاطت بهم من إزاحة السعديين عن الحكم. وعلى الرغم من الصراع على الحكم الذي كان يشتعل أحيان فقد نجحوا في الحفاظ على السلطة إلى يومنا هذا. أما اليوم فتلعب الأسرة الحاكمة دورا يبقى متواريا إلا أنه محوري ولا يمكن تجاهله، فأخ الملك وأخواته هم سفراء للنوايا الحسنة. وغالبا ما يتم اقتراح الأول لحضور مراسيم تشييع جنازة كبار شخصيات العالم (التي لا يحضرها الملك لدواعي لها علاقة بالبروتوكول المتبع)، بينما تكلف الأخريات بإظهار السياسة الاجتماعية للمؤسسة الملكية، من خلال تمويل عدد كبير من المؤسسات وإدارتها. أما أبناء عمومة الملك القريبين منه فلهم دور أيضا.

في القرن التاسع عشر، غادر عدد كبير من هذه الأسر فاس واستقروا بالدار البيضاء التي أصبحت العاصمة الاقتصادية للمملكة، حيث كانت أروبا اذاك في أوج ثورتها الصناعية. وقد جلبت الدار البيضاء التجار الأوربيين وطوّرت من أنشطتها المينائية. من جانب آخر، أدى احتلال الفرنسيين للجزائر سنة 1830 إلى قطع فاس عن أسواقها الشرقية. وفي تلك الفترة بالذات ظهرت قوة ما يطلق عليه الآن “فاسيو الدار البيضاء”. ويعتبر حسن بنجلون أحد أكبر المستفيدين من تعمير مدينة الدار البيضاء، حيث حل بائع الحبوب ووكيل شركة الملاحة “باكي” بالدار البيضاء سنة 1880. وشرع في الاستثمار في العقار والأثاث بعدما استشعر التطور المستقبلي للمدينة. وما زال ورثته –عددهم حوال 150– يحصلون إلى اليوم على مداخيل مهمة من استثماراته. ومن أشهرهم دون منازع هو عثمان بنجلون. بعمره الذي يجاوز الثمانين، يقف على رأس أكبر المجموعات الاقتصادية في البلد متمثلة خصوصا في القطاع البنكي من خلال البنك المغربي للتجارة الخارجية (BMCE) وكان يمتلك إلى نهاية التسعينيات أحد أكبر الثروات في المغرب، إلا أن علاقاته المتقلبة مع المخزن الاقتصادي (النخب المقربة من الملك) جعلت طموحاته تخبو بعض الشيء في السنوات الأخيرة. هذا الميلياردير صاحب الشكل الإنجليزي –يطلق عليه سير عوثي– متزوج من ابنة الماريشال أمزيان المنحدر هو من أسرة ريفية عريقة.

الفاسيون يستثمرون في الهياكل التقنية للدولة

أصبحت بعض العائلات عناصر مهمة في سياسة التحديث الاقتصادي التي ارتآها السلطان مولاي الحسن الأول. وعين بعد اعتلائه العرش سنة 1873ن على رأس وزارة المالية أحد المنتمين إلى عائلة بنيس يطلق عليه المدني. إلا أن هذا الأخير كسب عداوة الدباغين بعد أن فرض عليهم ضريبة عن تجارة الجلود ثم على شريحة من البورجوازية التي ثارت ضد تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، فاستجاب السلطان لمطالبهم وأنصفهم. ولمصالحتهم قام بتعيين محمد التازي وزيرا للمالية. من جهة أخرى، بدأ تأثير عائلات بنونة وبنشقرون –يهود اعتنقوا الإسلام– والبناني والشرايبي وغسوس وبنسليمان يكبر ويتنامى.
شرعت كبريات العائلات الفاسية في الاستثمار في الدولة، والسبب في ذلك بسيط، لأن هذه الأخيرة في حاجة إلى تكنوقراط مؤهلين وهؤلاء هم أبناء تلك العائلات ممن درسوا في أفضل المدارس… وسرعان ما استوعبت العائلات مقدار الفائدة التي بإمكانها الحصول عليها فاكتسبت عادة ما زالت شائعة إلى اليوم تتمثل في وضع أحد المنتمين إليها في أعلى دوائر القرار في الإدارة العمومية. وإلى غاية سنة 1930، لم يكن هناك إلا إعداديتين إسلاميتين اثنتين هما إعدادية مولاي إدريس بفاس ومولاي يوسف بالدار البيضاء. وكانت، كما قرر ذلك المارشال ليوطي، تستقبل تلاميذ يتم اختيار من حصلوا منهم على شهادة الدراسات الإسلامية، وهو عبارة عن دبلوم تسلمه مدار الأعيان. هذا الأمر جعل هيمنة النبلاء، أي العائلات الفاسية، على الهياكل التقنية للإدارة أمرا مؤكدا.
وعلى نفس المنوال وبشكل طبيعي سيحمل هؤلاء الشبان البرجوازيون المتنورون شعلة الحركة الوطنية. في فاس كانت هناك عائلات الفاسي والديوري والمرنيسي وبنشقرون؛ وفي الرباط بلافريج والسلاوي واغديرة والجعيدي؛ وفي الدار البيضاء بنجلون والسبتي بوطالب واليعقوبي، كلهم من أصول فاسية وكلهم ساندوا حركة وطنية تتأسس على الإسلام وعلى اللغة العربية اللذين رأوا فيهما رمزا لاستعادة هويتهم. وتولد عن هذه الحركة “حزب الاستقلال” الذي اختار الدفاع عن الملكية في شخص السلطان محمد الخامس. هذا الحزب لعب دورا تاريخيا في توطيد مكانة كبريات العائلات البورجوازية. وكان ورثتهم يلجون أفضل الثانويات وأتم أغلبهم دراسته في المدارس الفرنسية العليا. وبعد حصولهم على شواهد في المناجم والقناطر والطرق أو في التخصصات المتعددة التقنيات، جرى تعيين بعضهم على رأس الإدارات الكبرى والشركات الصناعية أو التجارية وتوزعوا على كل القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية. وكان من أكبر المستفيدين بُعيد الاستقلال عائلات الفيلالي والعمراني والكتاني والعلمي وغيرهم، وتقوى اندماجهم داخل السلطات الاقتصادية والسياسية للدولة. واستطاع التكنوقراط التقدم على السياسيين الذي همشتهم الدولة، كما اعتمد أحمد اغديرة، المستشار الرئيس للحسن الثاني كثير على هؤلاء النبلاء أصحاب الشواهد العالية وغير المتحزبين. وأصبح أحمد العلوي وإدريس السلاوي والإخوة بنهيمة والفاسي والتازي وبناني وبنسودة وزراء قارين أسس بعضهم لسلالات سياسية حقيقية.

الحسن الثاني وتشجيع التنوع

كان لا بد من انتظار مرور عشر سنوات على تحقيق الاستقلال قبل معاينة ظهور بعض الشخصيات في عالم الاقتصاد لا تنتمي إلى المجموعة المهيمنة. وفي سنة 1966، ساهمت مراقبة الاتحادات الجهوية لغرف التجارة والصناعة في إذكاء نار الثورة على يد بعض تجار الجملة من منطقة سوس (أمازيغ السهل) ممن رغبوا في إنهاء هيمة أسرة الفاسي. وفي هذه الفترة بالذات ظهرت طبقة من التجار السوسيين مع رجال أعمال على شاكلة ميلود الشعبي وعزيز أخنوش. لكن هيمنة آل الفاسي على قطاع المال والأعمال لم تتقلص. وفي سنة 1980، وبعد صدور تقرير للبنك الدولي تحدث عن شيخوخة المملكة، عمل الملك الحسن الثاني جاهدا على تشجيع تنويع النخب، جغرافيا على الأقل. عندها تم تعيين أطر غير فاسية. وكانت هناك عملية تطوير سهر عليها وزير الداخلية آنذاك، إدريس البصري، هو الآخر ابن شخص عمل كشاوش وانحدر من مدينة سطات.
ومنذ اعتلائه العرش أحاط محمد السادس به ببعض زملائه السابقين في الكوليج الملكي، ما يعني توظيفا متنوعا لهذه الحاشية المقربة. في المقابل من ذلك، ما تزال نفس العائلات الكبرى هي الممسكة باقتصاد المملكة وهياكلها التقنية، وتحافظ على ميزة إرسال أبنائها للدراسة في أفضل المدارس الأوربية والأمريكية. كما حرص الملك ومنذ اعتلائه العرش في مسيرة تحديث المملكة على الاعتماد على التكنوقراط أكثر من اعتماده على الطبقة السياسية. وينتمي رجال الأعمال الأكثر ثراء وتأثيرا في مغرب اليوم في أغلبهم إلى كبريات العائلات الفاسية. وهي حالة أنس الصفريوي وعثمان بنجلون والراحل إبراهيم زنير ومولاي حفيظ العلمي ومحمد كريم العمراني –وزير أول ثلاث مرات في عهد الحسن الثاني ومدير سابق للمكتب الشريف للفوسفاط، وتنازل عن مجموعة لصالح ابنته سعيدة–، وعائلة الكتاني (وافا بنك وفروعها، من بين أخرى) أو حتى نور الدين عيوش رجل الإشهار المعروف. وينحدر أنس الصفريوي من عائلة تعتبر من أقدم سكان فاس ويقف اليوم على رأس عملاق العقار الضحى الرائد في السكن الاجتماعي في المغرب بعدما كانت بداياته في مجال الأعمال في بيع “الغاسول”، هذا الطين المستعمل عند الاستحمام في الحمامات التقليدية. أما إبراهيم زنيبر الذي تعود أصوله إلى عائلة أندلسية عريقة استقر أغلب أعضائها في مدينة سلا بعد سقوط غرناطة، فقد كان يعتبر قبل وفاته سنة 2016 من أهم الفاعلين في قطاع الصناعات الغذائية في المغرب من خلال مجموعة ديانا المالكة لـ “Celliers de Meknès” التي تعتبر أول منتج للخمور في المغرب. بدوره مولاي حفيظ العلمي الذي يزعم أن أصوله شريفه –وهو السبب في لقب مولاي–، يعتبر من أكثر رجال الأعمال شهرة في المملكة. فبعد فترة قصيرة قضاها بمجموعة “أومنيوم شمال إفريقيا” (أونا) تحول إلى مجال التأمينات حيث خلق ثروته فيها. ومنذ فترة ولج مجال الإعلام بإرادة واضحة لإنشاء مجموعة صحفية.
وهناك أيضا رجلين من منطقة سوس يلعبان في نفس المربع من دون أي صعوبات وهما: عزيز أخنوش، رئيس “مجموعة أكوا” (التي تضم حوالي خمسين شركة)، ووزير ورئيس سابق لمنطقة سوس ماسة درعة؛ والراحل ميلود الشعبي رجل الأعمال صاحب التصريحات القوية أبدى اهتمامات تفرقت بين العقار والصناعات الغذائية مرورا بالفنادق والنسيج وقروض الاستهلاك. أما الأول فقد ورث عن أبيه (الذي بدأ من الصفر) مجموعة تعتبر اليوم واحدة من أهم أقطاب الاقتصاد المغرب، وهو يجسد في نظر الكثيرين انتقام الرأسمالية السوسية من النزعة التجارية الفاسية. ومنذ أن دخل الحكومة سنة 2007 مازج بين السياسية والأعمال. ويدير حاليا حزب التجمع الوطين للأحرار. من جهتها، تدير زوجته، سلوى أخنوش، مجموعة “أكسال” الناشطة في مجالات شراء حقوق تسويق العلامات التجارية ومجالات العقار و”المولات” أي المراكز التجارية على الطريقة الأمريكية التي بدأت في الازدهار في المدن المغربية.